فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

إن مجيء ذلك التابوت لابد وأن يقع على وجه يكون خارقًا للعادة حتى يصح أن يكون آية من عند الله، دالة على صدق تلك الدعوى، ثم قال أصحاب الأخبار: إن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتًا فيه صور الأنبياء من أولاده، فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل، فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا بالنصرة، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت، قال ذلك النبي: إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره، ثم إن الكفار الذين سلبوا ذلك التابوت كانوا قد جعلوه في موضع البول والغائط، فدعا النبي عليهم في ذلك الوقت، فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كلّ من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله تعالى بالبواسير، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت، فأخرجوه ووضعوه على ثورين فأقبل الثوران يسيران ووكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، حتى أتوا منزل طالوت، ثم إن قوم ذلك النبي رأوا التابوت عند طالوت، فعلموا أن ذلك دليل على كونه ملكًا لهم، فذلك هو قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أن يأتيكم التابوت} والإتيان على هذا مجاز، لأنه أتى به ولم يأت هو فنسب إليه توسعًا، كما يقال: ربحت الدراهم، وخسرت التجارة.
والرواية الثانية: أن التابوت صندوق كان موسى عليه السلام يضع التوراة فيه، وكان من خشب، وكانوا يعرفونه، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل، ثم قال نبي ذلك القوم: إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء، ثم إن التابوت لم تحمله الملائكة ولا الثوران، بل نزل من السماء إلى الأرض، والملائكة كانوا يحفظونه، والقوم كانوا ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، وعلى هذا الإتيان حقيقة في التابوت، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعًا، لأن من حفظ شيئًا في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء وإن لم يحمله كما يقول القائل: حملت الأمتعة إلى زيد إذا حفظها في الطريق، وإن كان الحامل غيره.
واعلم أنه تعالى جعل إتيان التابوت معجزة، ثم فيه احتمالان أحدهما: أن يكون مجئ التابوت معجزًا، وذلك هو الذي قررناه.
والثاني: أن لا يكون التابوت معجزًا، بل يكون ما فيه هو المعجز، وذلك بأن يشاهدوا التابوت خاليًا، ثم إن ذلك النبي يضعه بمحضر من القوم في بيت ويغلقوا البيت، ثم إن النبي يدعي أن الله تعالى خلق فيه ما يدل على واقعتنا، فإذا فتحوا باب البيت ونظروا في التابوت رأوا فيه كتابًا يدل على أن ملكهم هو طالوت، وعلى أن الله سينصرهم على أعدائهم فهذا يكون معجزًا قاطعًا دالًا على أنه من عند الله تعالى، ولفظ القرآن يحتمل هذا، لأن قوله: {يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} يحتمل أن يكون المراد منه أنهم يجدون في التابوت هذا المعجز الذي هو سبب لاستقرار قلبهم واطمئنان أنفسهم فهذا محتمل. اهـ.

.قال الطبري:

وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن عباس ووهب بن منبه: من أن التابوت كان عند عدو لبني إسرائيل كان سلبهموه.
وذلك أن الله تعالى ذكره قال مخبرا عن نبيه في ذلك الزمان قوله لقومه من بني إسرائيل: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت}، والألف واللام لا تدخلان في مثل هذا من الأسماء إلا في معروف عند المتخاطبين به. وقد عرفه المخبر والمخبر. فقد علم بذلك أن معنى الكلام: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه، الذي كنتم تستنصرون به، فيه سكينة من ربكم. ولو كان ذلك تابوتا من التوابيت غير معلوم عندهم قدره ومبلغ نفعه قبل ذلك، لقيل: إن آية ملكه أن يأتيكم تابوت فيه سكينة من ربكم.
فإن ظن ذو غفلة أنهم كانوا قد عرفوا ذلك التابوت وقدر نفعه وما فيه وهو عند موسى ويوشع، فإن ذلك ما لا يخفى خطؤه. وذلك أنه لم يبلغنا أن موسى لاقى عدوا قط بالتابوت ولا فتاه يوشع، بل الذي يعرف من أمر موسى وأمر فرعون ما قص الله من شأنهما، وكذلك أمره وأمر الجبارين. وأما فتاه يوشع، فإن الذين قالوا هذه المقالة، زعموا أن يوشع خلفه في التيه حتى رد عليهم حين ملك طالوت. فإن كان الأمر على ما وصفوه، فأي الأحوال للتابوت الحال التي عرفوه فيها، فجاز أن يقال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه وعرفتم أمره؟ وفي فساد هذا القول بالذي ذكرنا، أبين الدلالة على صحة القول الآخر، إذ لا قول في ذلك لأهل التأويل غيرهما. اهـ.

.قال أبو حيان:

ونسبة الإتيان إلى التابوت مجاز لأن التابوت لا يأتي، إنما يؤتى به، كقوله: {فإذا عزم الأمور} {فما ربحت تجارتهم}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والتابوت بمعنى الصندوق المستطيل: وهو صندوق أمر موسى عليه السلام بصنعه صنعه بصلئيل الملهم في صناعة الذهب والفضة والنحاس ونجارة الخشب، فصنعه من خشب السنط وهو شجرة من صنف القرظ وجعل طوله ذراعين ونصفًا وعرضه ذراعًا ونصفًا وارتفاعه ذراعًا ونصفًا، وغشاه بذهب من داخل ومن خارج، وصنع له إكليلًا من ذهب، وسبك له أربع حلق من ذهب على قوائمه الأربع، وجعل له عصوين من خشب مغشاتين بذهب لتدخل في الحلقات لحمل التابوت، وجعل غطاءه من ذهب، وجعل على طريق الغطاء صورة تخيل بها اثنين من الملائكة من ذهب باسطين أجنحتهما فوق الغطاء، وأمر الله موسى أن يضع في هذا التابوت لوحي الشهادة اللذين أعطاه الله إياهما وهي الألواح التي ذكرها الله في قوله: {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح} [الأعراف: 154]. اهـ.

.قال الفخر:

اختلفوا في السكينة، وضبط الأقوال فيها أن نقول: المراد بالسكينة إما أن يقال إنه كان شيئًا حاصلًا في التابوت أو ما كان كذلك.
والقسم الثاني: هو قول أبي بكر الأصم، فإنه قال: {آية مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك، وتزول نفرتكم عنه، لأنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة فلابد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم بالكلية.
وأما القسم الأول: وهو أن المراد من السكينة شيء كان موضوعًا في التابوت، وعلى هذا ففيه أقوال الأول: وهو قول أبي مسلم أنه كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام، بأن الله ينصر طالوت وجنوده، ويزيل خوف العدو عنهم الثاني: وهو قول علي عليه السلام: كان لها وجه كوجه الإنسان، وكان لها ريح هفافة والثالث: قول ابن عباس رضي الله عنهما: هي صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس كرأس الهر، وذنب كذنبه، فإذا صاحت كصياح الهر ذهب التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا وقف وقفوا ونزل النصر.
القول الرابع: وهو قول عمرو بن عبيد: إن السكينة التي كانت في التابوت شيء لا يعلم.
واعلم أن السكينة عبارة عن الثبات والأمن، وهو كقوله في قصة الغار: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} [الفتح: 26] فكذا قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} معناه الأمن والسكون.
واحتج القائلون بأنه حصل في التابوت شيء بوجهين الأول: أن قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ} يدل على كون التابوت ظرفًا للسكينة والثاني: وهو أنه عطف عليه قوله: {وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ آلُ موسى} فكما أن التابوت كان ظرفًا للبقية وجب أن يكون ظرفًا للسكينة.
والجواب عن الأول: أن كلمة {فِى} كما تكون للظرفية فقد تكون للسببية قال عليه الصلاة والسلام: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» وقال: «في خمس من الإبل شاة» أي بسببه فقوله في هذه الآية: {فِيهِ سَكِينَةٌ} أي بسببه تحصل السكينة.
والجواب عن الثاني: لا يبعد أن يكون المراد بقية مما ترك آل موسى وآل هارون من الدين والشريعة، والمعنى أن بسبب هذا التابوت ينتظم أمر ما بقي من دينهما وشريعتهما.
وأما القائلون بأن المراد بالبقية شيء كان موضوعًا في التابوت فقالوا: البقية هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفير من المن الذي كان ينزل عليهم. اهـ.

.قال ابن عطية:

والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى، فالمعهود أن الله ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده، والسكينة على هذا فعيلة مأخوذة من السكون، كما يقال عزم عزيمة وقطع قطيعة. اهـ.
وعلق القرطبى على هذا الكلام بقوله: وفي صحيح مسلم: عن البَرَاء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشَطَنَيْن فتغشّته سحابةٌ فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسُه ينفِر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: «تلك السّكِينَة تنزّلت للقرآن» وفي حديث أبي سعيد الخدرِي: أن أُسَيد بن الحُضَير بينما هو ليلة يقرأ في مِرْبَده الحديث.
وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأتَ لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم» خرحه البخاري ومسلم.
فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة؛ فدل على أن السكينة كانت في تلك الظُّلّة، وأنها تنزل أبدًا مع الملائكة.
وفي هذا حجة لمن قال إن السكينة روح أو شيء له روح؛ لأنه لا يصح استماع القرآن إلا لمن يعقل، والله أعلم. اهـ.

.قال الخازن:

وقال قتادة والكلبي هي فعلية من السكون أي طمأنينة من ربكم ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا وسكنوا إليه وهذا القول أولى بالصحة فعلى هذا كل شيء كانوا يسكنون إليه فهو سكينة فيحمل على جميع ما قيل فيه لأن كل شيء يسكن إليه القلب فهو سكينة ولم يرد فيه نص صريح فلا يجوز تصويب قول وتضعيف آخر. اهـ.

.قال الفخر:

من الناس من قال: إن طالوت كان نبيًا، لأنه تعالى أظهر المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبيًا، ولا يقال: إن هذا كان من كرامات الأولياء، لأن الفرق بين الكرامة والمعجزة أن الكرامة لا تكون على سبيل التحدي، وهذا كان على سبيل التحدي، فوجب أن لا يكون من جنس الكرامات.
والجواب: لا يبعد أن يكون ذلك معجزة لنبي ذلك الزمان، ومع كونه معجزة له فإنه كان آية قاطعة في ثبوت ملكه. اهـ.